إبراهيم الجبين
تبدو سورية اليوم لبعض أصحاب الأفق الضيق والثقافة شبه المنعدمة، فرصة للاستغلال لا للاستثمار والتنمية، وبعد أن كان العمل الجماعي وشغل المنظمات الكثيف منصبّاً على تجريم الأسد ومحاولة محاصرته، لا سيما على مستوى الجاليات السورية في أوروبا والولايات المتحدة بصورة أخص، تقلّص الملف السوري في أنظارهم ومداركهمم حتى بات منحصراً في موضوع العقوبات المفروضة على سورية بسبب جرائم النظام المنهار.
ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أن البعض من هؤلاء سيفكّر على الفور، بنقل نشاطه من السعي السابق لفرض العقوبات على بشار الأسد إلى سعي جديد لرفع العقوبات عن أحمد الشرع. وبالطبع سيكون لهذا النشاط آثاره، خاصة بعد أن فقدت تلك المنظمات والأفراد الدور الذي كانت تقوم به منذ العام 2011، وهم يبحثون عن دور جديد الآن. وهو بالضبط ما حصل منذ لحظة تحرير دمشق وفرار الأسد في 8 من ديسمبر الماضي، وسبق وأن قلنا في مرات عديدة ماضية منذ انطلاق عملية ردع العدوان، إن على السوريين جميعاً ابتكار أدوار جديدة لأنفسهم، لأن المرحلة الماضية انطوت، وانتهت معها صلاحية الأدوار القديمة.
بالطبع علينا أن نستثني من هذا القطاع، المنظمات الحقوقية والإنسانية التي عملت ولا زالت تعمل من أجل العدالة الانتقالية ومساعدة السوريين دون تمييز، ومعهم العديد من الوطنيين السوريين الذين يرون المشهد بصورته الواضحة بعيداً عن تشويش المصالح، وهؤلاء يعتبرون أن طريقهم لا تزال طويلة للحصول على العدالة للضحايا وعلى سورية مدنية ديمقراطية جمهورية، أما آخرون فقد خطر ببالهم أن الوقت قد حان الآن للمتاجرة بهذا الملف (العقوبات).
شكّل البعض مجموعات عمل، ورسموا خططاً وسيناريوهات تقوم على عدد من الخطوات المرتّبة مسبقاً لتحقيق جملة من الأهداف، أولاً سينظمون أنفسهم كنخب تخصصية، وهو غطاء مقنع لكثيرين، ثم سيحاولون جمع المال من هنا وهناك لتمويل مجوعتهم وإجراء لقاءات مع شخصيات رسمية في عدد من البلدان، تمنحهم دفعة من القوة قبل خطوتهم القادمة، التي ستحملهم مع مشروعهم إلى دمشق للقاء الإدارة الجديدة ليعرضوا عليها خدماتهم للمساعدة في رفع العقوبات عن سورية، وتبعاً عن (هيئة تحرير الشام) التي لا تزال مصنفة على لوائح الإرهاب في الولايات المتحدة.
تنتهي المهمة الأولى هنا، لكن لا يزال فيها المزيد من التفاصيل، فهذه المجموعات وغيرها لديها ترشيحات لشخصيات من بين أعضائها لشغل منصب سفير أو سفيرة لسورية في واشنطن، بعد رفع العقوبات وإعادة العلاقات الدبلوماسية السورية الأميركية، وبالتالي سيتمكنون من جميع موارد نفوذ عديدة تقوي استثمارهم. لكن المشكلة التي تواجههم أنهم لا يمتلكون الجرأة للدفاع عن الإدارة السورية الجديدة في أميركا، (وربما لا قناعة لديهم بالدفاع عنها أساساً فبعضهم وبعضهن كان حتى قبل أيام من تحرير دمشق مؤيداً لبشار الأسد ومعادياً لثورة الإسلاميين الجهاديين على حد تعبيره). لا يستطيعون المطالبة بشرعنة الإدارة السورية بشكل صريح لحساسية موضوع القاعدة وارتباط هيئة تحرير الشام بها سابقاً، والإرث الغاضب الذي لا يزال يسيطر على الذهنية الأميركية منذ أحداث 11 من سبتمبر 2001، وتفجير برجي مركز التجارة العالمي في مانهاتن.
ما العمل إذاً؟ لا سبيل أمامهم إلى مواصلة مسار هذه المجموعة سوى بالهمس في الأذن الأميركية بأن سلاح العقوبات سيكون هو الوسيلة الوحيدة للضغط على الشرع والإدارة السورية الجديدة لتغيير سلوكه، وفتح المجال أمام شركاء سياسيين آخرين وأمام الحياة الديمقراطية، وهكذا تتحوّل المهمة من رفع العقوبات إلى استخدامها ضد من وعدوه بالمساعدة على إزالتها.
البعض الآخر، من الذين سيطرت عليهم الإيديولوجيا الدينية الحزبية زمناً طويلاً، حتى جعلتهم لا يرون سورية إلا حزمة طوائف، وليس بلداً لمواطنين، قرروا الدخول على بازار العقوبات، وشكلواً وفداً لمقابلة المسؤولين الأميركيين، وبالتأكيد جلبوا معهم عضواً من طائفة من “الأقليات” وعضواً من طائفة ثانية وثالثة وهكذا، ومع أن من بينهم من كان صادقاً في توجهه نحو مساعدة سورية ورفع قيود العقوبات عنها، إلا أن آخرين كانت لديهم أجندات مختلفة، وعلى الرغم من أن اللقاء كان بهدف تقديم العون للإدارة الجديدة ورفع العقوبات عنها، تحوّل إلى شيء آخر، بحسب شكاوى بعض أعضاء هذا الوفد من الذين قالوا إن العضو العلوي في الوفد همس في أذن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن هناك مجازر تدور بحق العلويين الآن في سورية بعد سقوط الأسد وأنه يجب أن تتدخل أميركا بكل ما يمكنها فعله من أجل إيقاف القتل على الهوية وغير ذلك من الفظائع رغم أن هؤلاء سلّموا أسلحتهم (على حد تعبير العضو المذكور).
وحين تسرّب خبر كلام هذا العضو العلوي، (عن طريق مشاركين في الوفد وليس من خارجه) سارع آخرون إلى نفي الحادثة جملة وتفصيلاً، ولكن تبقى شهادة الذين حضروا في اللقاء وهم الذين نقلوا هذا الكلام وليس أي أحد غيرهم. فهل اختلقوه؟ أم سمعون بآذانهم؟ ولماذا أصلاً سيفترون على ذلك العضو العلوي وهو زميلهم وشريكهم في المشوار؟
وسواء صح هذا الكلام أم لا؟ فالمناخ الذي ينتجه مناخ سيء ومضطرب. لأن التركيبة التي تقوم عليها هذه الوفود تركيبة بدائية ملفقة تحاول تقديم الولاء بتنويعة طائفية لإثبات أن المسلمين السوريين السنّة لن يبيدوا الأقليات!.
وفود تأتي ووفود تذهب، تقصد الشرع لتسمع العرض ذاته “سنعمل على مساعدتك برفع العقوبات المفروضة على سورية وعليك”، والشرع يستمع إلى كل تلك العروض ويجيب عليها بالشكر، حتى كاد صبره ينفد حين قال لأحد تلك الوفود “نحن نعرف أن العقوبات سوف تُرفع عن سورية عاجلاً أو آجلاً”، لم يكن يريد القول “لا تحاولوا ابتزازنا بملف العقوبات، فنحن أدرى به وبما تريدون مقابلاً لجهودكم تلك”. لكن يبدو أن الرسالة لم تصل بعد إلى هؤلاء.
البعض ذهب إلى الشرع ليطالبه بمطالب الهدف منها هو إحراجه فقط وليس تحقيق أي غرض سياسي أو إنساني، ويمكننا فهم ذلك حين نعرف أن هناك من أراد من الشرع صرف مرتبات لأسر قتلى النظام من الشبيحة وعناصر جيش الأسد، أسوةً بأسر شهداء الثورة، يطلبون منه ذلك وهم يعرفون أنه لن يتمكن من فعله، لأن الشعب سيرفضه والضحايا وأصحاب الحقوق لن يقبلوا به، ولكن من يطرح هكذا طروحات يريد أن يحملها معه حين يعود إلى أميركا وأوروبا ليقول للصحافة (طلبنا من الشرع هذا المطلب الإنساني ونحن ننتظر تنفيذه) كي يتواصل الضغط عليه وكي يجري خلط الأوراق مجدداً بين العقوبات والمصالح والمطالب طائفية الدوافع.
إن مجرّد فكرة الضغط عبر العقوبات وسيلة لتغيير السلوك، هي فكرة غير وطنية وساذجة، ولا تقوم على ثقة بالإدارة السورية الجديدة، بل تصرّ على إعادة إنتاج نظام سياسي جديد في سورية ينصاع لوصاية هذه الدولة أو تلك. وبدلاً من محاولة دفع الإدارة في دمشق إلى المضي بالمسار الديمقراطي التشاركي يجري الاكتفاء بالمكاسب الشخصية لتلك الجهات، ويا لها من مطالب “منصب سفير أو سفيرة في واشنطن؟” حتى أن هناك من خطر بباله أن يكون تعيين السفير السوري الجديد في واشنطن من اختصاص إدارة ترامب، فهم يختارون لها الشخص وهي تفرضه على الشرع والشيباني ولن تملك حينها خياراً سوى الاستجابة، وبالطبع الهدف الماثل أمام العينين هو رفع العقوبات.. وهكذا.
الإدارة السورية الجديدة ووزارة خارجيتها تمتلك من الحنكة بما يكفل لها تلافي الوقوع في فخاخ من هذا النوع، فهي تواجه ملفات أكثر تعقيداً، وتعتمد على شركائها في الرياض والدوحة وأنقرة لتفكيك ملف العقوبات، ويبقى حفظ السيادة الوطنية السورية واستقلال قرار دمشق رهناً بالسوريين وحدهم في نهاية المطاف.