تداولت تقارير إعلامية، منها تقرير الصحفية الهولندية رينا نيتجيس المنشور عبر منظمة “ديمقراطية للعالم العربي الآن” (DAWN)، ادعاءات خطيرة حول مشاركة مقاتلين من جبهة البوليساريو في الصراع السوري إلى جانب نظام بشار الأسد، بدعم من إيران وحزب الله والجزائر. هذه الادعاءات، التي شملت اتهامات بارتكاب جرائم حرب، فرار مقاتلين إلى لبنان، واعتقال آخرين في إدلب، أثارت جدلًا واسعًا. لكن، وبعد تحقيق دقيق يستند إلى مصادر موثوقة، يتضح أن هذه الروايات تعاني من تضخيم وتلفيق، وتفتقر إلى أدلة قاطعة.
التقرير الذي نشرته نيتجيس يزعم أن مئات من مقاتلي جبهة البوليساريو شاركوا في الصراع السوري ضمن شبكة من الميليشيات الأجنبية التي دعمت نظام الأسد، بتدريب من حزب الله، تمويل إيراني، ودعم جزائري. ويتحدث التقرير عن وثيقة مزعومة صادرة عام 2012 من جهاز الأمن السوري (الفرع 279)، تثبت دمج 120 مقاتلًا صحراويًا في كتائب الجيش السوري. كما يذكر أن بعض هؤلاء المقاتلين فروا إلى لبنان بعد سقوط النظام في 8 ديسمبر 2024، بينما احتُجز آخرون في سجون إدلب. ويستند التقرير أيضًا إلى صور بثتها قناة “دويتشه فيله – عربي”، يُزعم أنها تُظهر مقاتلين من البوليساريو.
هذه الادعاءات، رغم خطورتها، تبدو هشة عند التدقيق. جبهة البوليساريو، التي تركز نشاطها على قضية الصحراء الغربية، ليس لها تاريخ موثق في الانخراط في نزاعات خارجية بعيدة جغرافيًا وسياسيًا مثل الصراع السوري. دعونا نفحص هذه الادعاءات واحدًا تلو الآخر، مع تضمين تصريحات
المصادر المباشرة.
يستند التقرير إلى وثيقة مزعومة من عام 2012 تدّعي دمج 120 مقاتلًا صحراويًا في الجيش السوري. لكن، مصدر رفيع في وزارة الدفاع السورية، تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته، نفى هذه الادعاءات بشكل قاطع، قائلًا: “لا توجد أي سجلات رسمية في وزارة الدفاع السورية تثبت وجود مقاتلين من جبهة البوليساريو ضمن صفوف الجيش السوري أو الميليشيات المتحالفة معه خلال الصراع. الوثيقة المزعومة التي يتحدث عنها التقرير لم يتم التحقق من صحتها، ولا يوجد أي دليل مادي أو إداري يدعم هذه الادعاءات. من المحتمل أن تكون هذه الوثيقة جزءًا من حملات تضليل إعلامي استهدفت النظام السوري أو أطرافًا أخرى في المنطقة.”
وأضاف المصدر: “إدارة الأمن السوري كانت توثق بدقة أي مقاتلين أجانب ينضمون إلى قواتها، سواء كانوا من حزب الله أو ميليشيات أخرى. لو كان هناك مقاتلون من البوليساريو، لكانت هناك تقارير داخلية واضحة تؤكد ذلك، لكن لا شيء من هذا القبيل موجود.”
هذا النفي يتماشى مع غياب أي تقارير مستقلة من منظمات دولية مثل الأمم المتحدة أو “هيومن رايتس ووتش” تثبت وجود مقاتلين صحراويين في سوريا.
يشير التقرير إلى صور بثتها قناة “دويتشه فيله – عربي” في مايو 2025، يُزعم أنها تُظهر مقاتلين من البوليساريو. الناشط الصحفي أحمد السليم، الذي تابع الصراع السوري عن كثب، قام بتحليل هذه الصور وقال: “الصور التي نُشرت عبر دويتشه فيله غامضة ولا تحمل أي علامات مميزة تشير إلى هوية المقاتلين. لا توجد شارات، أعلام، أو أي دليل واضح يربط هؤلاء الأفراد بجبهة البوليساريو. الاعتماد على هذه الصور كدليل قاطع هو محاولة لتضخيم رواية لا أساس لها. لقد رأينا صورًا مشابهة في السابق تُستخدم للترويج لروايات سياسية دون تدقيق.”
وأضاف السليم: “دويتشه فيله نفسها لم تقدم تأكيدًا قاطعًا على أن هؤلاء المقاتلين ينتمون إلى البوليساريو. إنها مجرد افتراضات استندت إلى مصادر غير موثوقة، وهذا يعكس ضعف الرواية.”
هذا التحليل يؤكد أن الصور المقدمة لا تشكل دليلًا موثوقًا، خاصة في ظل غياب أي تأكيد رسمي من القناة أو مصادر مستقلة.
يدعي التقرير أن حوالي 70 مقاتلًا من البوليساريو وعسكريين جزائريين اعتُقلوا جنوب حلب ونقلوا إلى سجون إدلب. لكن مصدرًا في قوات الأمن الداخلي السورية، تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته، نفى هذه المعلومات بشكل صريح، قائلًا: “سجلاتنا الأمنية في إدلب ومناطق أخرى لا تتضمن أي حالات اعتقال لمقاتلين ينتمون إلى جبهة البوليساريو. لقد تم توثيق وجود مقاتلين أجانب من جنسيات أخرى، مثل الأفغان والعراقيين، ضمن ميليشيات مثل الفاطميون والزينبيون، لكن لا يوجد أي دليل يشير إلى وجود مقاتلين صحراويين. هذه الادعاءات تبدو ملفقة وغير مدعومة بأي سجلات رسمية.”
وأضاف المصدر: “عمليات الاعتقال في جنوب حلب شملت أفرادًا من ميليشيات مرتبطة بإيران، لكن لا توجد أي إشارة إلى مشاركة البوليساريو أو عسكريين جزائريين. هذه الرواية تفتقر إلى أي أساس واقعي.”
هذا النفي مدعوم بتقارير منظمات حقوقية دولية، التي لم تشر في أي من وثائقها إلى وجود مقاتلين من البوليساريو بين المعتقلين في سوريا.
يزعم التقرير أن البوليساريو تلقت تدريبات من حزب الله بدعم جزائري. العميد المتقاعد اللبناني أحمد نجم، الذي عمل في الاستخبارات العسكرية اللبنانية، رفض هذه الادعاءات، قائلًا: “حزب الله ركز جهوده خلال الصراع السوري على تجنيد مقاتلين من المناطق الشيعية في لبنان، العراق، وأفغانستان. لا توجد أي تقارير موثوقة أو استخباراتية تثبت أن حزب الله درب أو جنّد عناصر من جبهة البوليساريو. هذه الادعاءات لا تستند إلى أي أساس منطقي، خاصة أن البوليساريو لا تملك وجودًا عسكريًا أو لوجستيًا في المنطقة.”
وأضاف نجم: “الجزائر، رغم دعمها السياسي للبوليساريو في قضية الصحراء الغربية، لا تملك مصلحة أو قدرة لوجستية لإرسال مقاتلين إلى سوريا. هذا الادعاء يبدو جزءًا من حملة سياسية تهدف إلى تشويه صورة الجزائر والبوليساريو في سياق الصراع الإقليمي.”
تكشف هذه الادعاءات عن دوافع سياسية محتملة تهدف إلى استهداف جبهة البوليساريو والجزائر في سياق الصراع حول الصحراء الغربية. المغرب، الذي قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران في 2018 بسبب اتهامات بتسليح البوليساريو عبر حزب الله، يبدو أن له مصلحة في الترويج لهذه الروايات لتعزيز موقفه الدولي ضد خصومه. تقارير مثل تلك التي نشرتها “واشنطن بوست، ثم تراجعت عنها” و”دويتشه فيله”، والتي استندت إليها نيتجيس، تعتمد غالبًا على مصادر مجهولة أو غير مدققة، مما يثير الشكوك حول نزاهتها.
علاوة على ذلك، فإن منظمة DAWN، التي نشرت التقرير، لها تاريخ في تبني روايات تنتقد أطرافًا معينة في المنطقة، مما قد يشير إلى تحيز محتمل. هذا يعني أن التقرير يتطلب تدقيقًا أعمق والتحقق اكثر في المصادر الأولية، وهو ما يفتقر إليه هذا التقرير.
بعد فحص الادعاءات المتعلقة بمشاركة جبهة البوليساريو في الصراع السوري، يتضح أنها تعتمد على أدلة غامضة وضعيفة وغير موثقة بشكل كافٍ. تصريحات لمصادر موثوقة من وزارة الدفاع السورية وقوات الأمن الداخلي، إلى جانب تحليل العميد أحمد نجم والناشط أحمد السليم، تؤكد عدم وجود أي أساس واقعي لهذه الرواية. الوثائق المزعومة، الصور الغامضة، والروايات غير المدعومة لا ترقى إلى مستوى الدليل القاطع.
إن هذه الادعاءات التي يبدو أن معظمها يعود إلى الصحافة المغربية تبدو جزءًا من حملة إعلامية تهدف إلى تشويه صورة البوليساريو والجزائر في سياق الصراع السياسي حول الصحراء الغربية. من الضروري أن يتم التعامل مع هذه التقارير بحذر، مع التركيز على التحقق المستقل من المعلومات قبل قبولها كحقائق.
الصراع السوري، بتعقيداته وتشابكاته، لا يحتاج إلى إضافة روايات غير مؤكدة تعقد مسار العدالة الانتقالية وتؤجج التوترات الإقليمية.