مضر رياض الدبس-العربي الجديد
منذ كنت طفلاً في المدرسة وأنا ألبس لباساً عسكريّاً بعثيّاً، وأُرددُ شعاراً يتضمَّن بيعةً إلى الأبد، وأَتعهَدُ في كلِّ يومٍ أن أتصدّى للإمبريالية والرجعية التي لم أكن أعرف معناهما، وأن أسحق أداتها المجرمة، وأؤمن بخلود رسالتنا التي لا أعرفها… منذ ولدتُ وأنا من دون هويةٍ وطنية، وهذا حال الجيل السوري الذي وُلِدَ بعد مطلع سبعينيات القرن الماضي: كنّا جيلاً عارياً (إذا استثنيتَ أرديتنا البيولوجية). جيلُ تربيةٍ عسكرية، وإعدادٍ عقائدي، وصمودٍ، وتصدٍّ، وغربةٍ في الوطن، وخارج الوطن. في 2011، ولأول مرّة بدأنا نشعر أننا متمدّنون، أو قبل المدينية. بدأنا نشعر بأننا بشرٌ من حقّهم أن يربوا الأمل، ويحموه ممّا يخذله؛ يعتقد كثيرون من غير السوريين أننا لبسنا البدلة العسكرية في 2011، ولكننا في الحقيقة لم نفعل شيئاً إلا أننا رفضنا أن نرتديها ثانيةً. نحن حاربنا النظام مدنيين، حاربناه باسم المدنيّة ضد الهمجية، وباسم الإنسانية ضد الشر وتفاهة الشر، وخلّصنَا العالمَ من واحدٍ من أقذر شروره المعاصرة.
ليعذرني نزار قباني، الشاعر الدمشقي الجميل، الذي قال “أصبح عندي الآن بندقية”، فنحن أصبح عندنا الآن هُويَّة وطنية أسمى وأقوى وأثبت من بنادق الأرض كلها، هويَّةٌ توَّاقةٌ إلى الحياة، فخورةٌ، مُحِبَّةٌ، طيِّبة، مَجبورةُ الخاطر. وفي هذه اللحظات التاريخية السعيدة المُباركة، نحن عدنا بحقٍ إلى الإنسانية، صرنا لأول مرةٍ ذواتًا حرةً مستقلة. نحن نطوي صفحة امتدت منذ 1963 مروراً بعام 1970، ومجازر ثمانينيات القرن الماضي، وسجون التسعينيات وقتامة الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، وصولاً إلى كارثة استلام الابن “الأهبل” السلطة، ثم ما تعجز اللغة عن توصيفه من حقدٍ وهمجية وتشريدٍ وقتلٍ وتعذيب بعد 2011. بعد هذا كله، وفي الثامن من ديسمبر/ كانون الأول/ 2024 أصبح لدينا هوية. ولا يميل المرء كثيراً إلى الكلام في هذه اللحظات الأولى، يقيناً منه أن لديه الكثير ليتكلم فيه لاحقاً بحريّة ومودة. ومع ذلك، قد أمنح لنفسي شعوراً رائعاً، وأكتب اليوم لأول مرة بعد سقوط الأسد في النقاط الآتية:
أولاً: في السعادة التي تغمر القلوب، وفي دموع الفرح التي غالبت السوريين، واللبنانيين، والعراقيين، والفلسطينيين، والأردنيين، والعرب الطيبين كلهم. والسعادة غاية السياسة ومنتهاها، وإن كان من غاية للسياسة في الفترة المقبلة فهي من دون شك الحفاظ على هذه السعادة. سعادة السوريين اليوم ضمان مستقبلهم، ووسيلة تضامنهم، ورأس مالهم الاجتماعي الذي لا ينضب.
بدأت الثورة بأيدي الطيبين، وحققت أكثر أيامها نصراً بأيدي الطيبين
ثانياً: في الحرية، وخلق ثقافة ترحب بالاختلاف (سيحصل لا محالة) وتعتز به، وتعرف بحكمةٍ كيف تدبره. وهذا بطبيعة الحال يعني خلق الثقة، وابتكارها، ومن ثم تبادلها، وصولاً إلى التعدّدية بالطيبة؛ فالطيبة اليوم صارت مفهوماً سياسيّاً مهمّاً في الحالة السورية. بدأت الثورة بأيدي الطيبين، وحققت أكثر أيامها نصراً بأيدي الطيبين. الطيبة اليوم ليست ترفاً، ولا نتيجة دروشةٍ، لكنها نتيجةٌ عقلانيةٌ، وأداةٌ سياسيةٌ ضروريةٌ لابتكار ذواتنا من جديد، والإبداع في تشكيل هويتنا الوطنية، ربما لأول مرةٍ منذ المؤتمر السوري العام في عام 1920.
ثالثاً: في العلاقة مع التاريخ: في وقت لا ينبغي أن ننسى أن الثورة السورية جزءٌ من ظاهرة عربية يشار إليها بـ “الربيع العربي”، إلا أنه قد يكون من المهم أن نتذكّر أن هذا النوع من المقاربات بحد ذاته يدخل الثورات الموصوفة في عالم مفهومي وخطابي مع ماضٍ معروف واتجاه مستقبلي مكتوب، الأمر الذي لم يحصل في الثورة السورية، فهي لا تقبل النمذجة على الغرار الليبي أو التونسي أو المصري أو أي نموذجٍ آخر، فلم تخضع الثورة السورية إلى الحتميات التاريخية، على عكس الذي كان متوقّعاً عند تحليلها، والتفكير فيها، وفي الظاهرات التي تفرعت منها. النتيجة التي بين أيدينا اليوم صادمةٌ على مستوى المنطق التاريخي، وفيها درسٌ عميقٌ لا يزال يتعلمه كاتب هذه السطور، ويمكن صياغته مبدئيّاً، وقبل التقاط أي نفسٍ بعد النصر، بالقول إن التوصيفات والتسميات التي تستند إلى نموذجٍ مثل “الربيع العربي” على غرار “ربيع أوروبا” في 1848 أو “ربيع براغ” مثلاً، قد تُحوِّلُنا إلى موضوعات واضحة لمسيرة التاريخ، بدلاً من جعل التاريخ موضوعاً لتحرّكاتنا كما حدث في الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري بسقوط الأسد وهروبه من سورية وإعلان تحرير سورية من حكمه البغيض.
سعادة السوريين اليوم ضمان مستقبلهم، ووسيلة تضامنهم، ورأس مالهم الاجتماعي الذي لا ينضب
رابعاً: في نسبية الثقافة، بوصفها جزءاً من الحرية، وهذا يعني أن كل إنسانٍ حرٌّ بما يريد فعله، حتى وإن بدا أنه بفعله هذا ينتهك حرّيته بنفسه بتقديرات آخرين. في الحقيقة، هو حرٌ في طريقة اختياره الثقافة التي يريد أن يتمثلها. لتوضيح نفسي أكثر أستذكر بيانًا كتبه 12 كاتباً وصحافيّاً ومثقفاً من خلفيات سياسية متنوعة بعنوان “معاً في مواجهة الشمولية الجديدة”، على خلفية نشر صحيفة يولاند بوستن الدنماركية رسومات كاريكاتورية تسيء إلى النبي محمّد، وبدأ البيان كالآتي: “بعد التغلب على الفاشية والنازية والستالينية، يواجه العالم الآن تهديداً شموليّاً جديداً هو الإسلاموية”. ودعا البيان إلى “مقاومة الشمولية الدينية وتعزيز الحرية وتكافؤ الفرص والقيم العلمانية للجميع”. وأكد رفض موقّعيه النسبية الثقافية إيماناً من المؤلفين بأن هذا الرفض هو الطريقة الصحيحة للدفاع عن حقوق الرجال والنساء ذوي “الثقافة الإسلامية”. وفي الحقيقة، تجاهل هؤلاء أن الشمولية التي يمقتونها ونمقتها معهم كانت كلها مشاريع علمانية متصلّبة فاشلة، وينطبق الأمر نفسه على برامج بناء الدولة في حقبة ما بعد الاستعمار. ومن الأسماء اللافتة الموقّعة على البيان كان فيليب فال مؤسّس مجلة تشارلي إيبيدو، وسلمان رشدي المشهور بروايته “آيات شيطانية”، وكارولين فوست وهي عالمة نسويَّة صاحبة كتاب “الأخ طارق” (العالم الإسلامي السويسري طارق رمضان). وليس القصد من هذا المثال بطبيعة الحال أن نقول إن الإسلاميين في سورية أحرارٌ في فرض طريقة حياتهم، فهم بالضرورة ليسوا كذلك استناداً إلى احترام الاختلاف، ولكن في الوقت نفسه يتطلّب احترام مبدأ “نسبية الثقافة” بأن يحترمهم “العلمانيون” ولا يحكمون عليهم من مظهرهم أو طقوسهم، ومن ثم يتّخذون موضعَ الذي يريد تحريرهم من أنفسهم.
كانت هذه خربشة على السطح لمحاولة الكتابة بعد 8 ديسمبر، وسواء كانت هذه المحاولة، التي تأتي قبل التقاط الأنفاس، صائبة أم مخفقة، إلا أن لها عند كاتبها طعمها الخاص.