إنّ قرار إدارة العمليات العسكريّة بمنح الأمان لكل شبيح أو عسكري كان في صفوف عصابات النظام مقابل القاء سلاحه أو تسليم نفسه للجان تسوية أوضاعهم أثار لغطاً لدى الكثير من السوريين على ضفتي الثورة والنظام حيث تم تفسير هذا القرار على أنّه عفو عام عن جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانيّة التي ارتكبتها تلك العصابات مع الميليشيات الإيرانية والمرتزقة الروس، وتطور الامر لدى البعض الى المطالبة بالعدالة التصالحيّة على حساب العدالة الانتقاليّة التي تعتبر بوابة السلم الأهلي والأمن الركيزتان الأساسيتان في القيام بأعباء مرحلة بناء الانسان وإعادة اعمار البنيان والتنمية المستدامة، ولأهمية هذا الامر اقتضى منا بيان ماهية كل منهما والفرق بينهما.
تقوم العدالة في الحرب الأهلية على قاعدة ”الجميع شركاء في المسؤولية والجميع شركاء في تحمل النتائج” يعني يتساوى الجاني والضحية بالمسؤولية الجنائية بالتالي عدم إمكانية محاسبة الجميع جنائيا مما يجعل الخيار الوحيد للحل هو ”جبر الضرر” ومن أبرز تطبيقاتها:
”العدالة التصالحية” التي تتعلق بجرائم الدم والجراح والاعتقال التعسفي والتغييب القسري والاغتصاب والتهجير القسري والحصار واستخدام الأسلحة الكيميائية، وهي نقيض العدالة الانتقالية التي تقوم على المحاكمة الجنائية والتعويض وجبر الضرر ورد المظالم.
العدالة التعويضية: وتتعلق بجرائم الاعتداء على الأموال المنقولة وغير المنقولة وينحصر حق المتضرر بالتعويض إذا تم التصرف بهذه الأموال من قبل المعتدين، وهو تكريس لعمليات غصب العقارات والاستيلاء عليها بموجب القوانين العقارية وعمليات التزوير مثل قانون ١٠ لعام 2018 والمرسوم 66 لعام 2012 وقانون التطوير العقاري وقانون تملك الأجانب وقانون تملك الشركات الأجنبية وقانون إعمار العرصات وقانون إزالة الأنقاض وغيرها من القرارات الأمنية.
العدالة التوزيعية: وتعني توزيع المسؤولية عن الأضرار في الأرواح، والممتلكات والأموال على الجناة والضحايا والمجتمع.
تحل لجان المصالحات ولجان التفاوض والوجهاء محل القضاء والمحاكم مما يفتح باب سطوة اصحاب النفوذ والمال والسلطة والقوة على حساب العدالة والقضاء والذي يفترض فيه الحيادية والشفافية والاستقلال، وتمتد عمليات المصالحة عشرات السنين بينما التقاضي أمام المحاكم أسرع وأكثر عدلاً وإنصافاً.
أولاً: العدالة التصالحيّة:
يُذكر بأنّ مصطلح العدالة التصالحيّة ورد تداوله في الملف السوري لأول مرة من قبل المبعوث الدولي بيدرسون في احاطته حول سورية عقب أحد اجتماعات اللجنة الدستورية في كانون أول من سنة 2020 وهو بديل للعدالة الانتقالية طالبت به منصة المجتمع المدني.
العدالة التصالحية وفقاً لقرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي رقم ’’12/2002‘‘: يقصد بتعبير “برنامج عدالة تصالحية ”أي برنامج يستخدم عمليات تصالحية ويسعى إلى تحقيق نواتج تصالحية.
ويقصد بتعبير “عملية تصالحية” أي عملية يشارك فيها الضحية والجاني، وعند الاقتضاء أي من الأفراد أو أعضاء المجتمع المحلي الآخرين المتضررين من الجريمة، مشاركة نشطة معا في تسوية المسائل الناشئة عن الجريمة، وذلك، بصفة عامة، بمساعدة من ميسِّر. ويمكن أن تتضمن العمليات التصالحية الوساطة، والمصالحة، والتفاوض بين المحامين والقضاة والتشاور بشأن إصدار الأحكام.
استخدام برامج العدالة التصالحية:
يمكن استخدام برامج العدالة التصالحية في أي مرحلة من مراحل نظام العدالة الجنائية، رهناً بالقانون الوطني.
ينبغي ألا تستخدم العمليات التصالحية إلا عندما تكون هناك أدلة كافية لتوجيه الاتهام إلى الجاني، وبالموافقة الحرة والطوعية من الضحية والجاني. وينبغي أن يكون بمقدور الضحية والجاني سحب تلك الموافقة في أي وقت أثناء العملية. وينبغي التوصل إلى الاتفاقات طوعيا وألا تتضمن سوى التزامات معقولة ومتناسبة.
ينبغي في الأحوال العادية أن يتفق الضحية والجاني على الوقائع الأساسية للقضية كأساس لمشاركتهما في العملية التصالحية. ولا ينبغي استخدام مشاركة الجاني كدليل على الاعتراف بالذنب في الإجراءات القانونية اللاحقة.
ينبغي أن توضع في الاعتبار، لدى إحالة القضية إلى العملية التصالحية وفي تسيير تلك العملية، الفوارق المؤدية إلى اختلال توازن القوى، وكذلك التباينات الثقافية بين الأطراف.
توضع سلامة الأطراف في الاعتبار لدى إحالة أي قضية إلى العملية التصالحية وفي تسيير تلك العملية.
عندما تكون العمليات التصالحية غير ملائمة أو غير ممكنة، ينبغي أن تحال القضية إلى سلطات العدالة الجنائية وأن يبت دون إبطاء في كيفية التصرف. وفي تلك الحالات ينبغي أن يسعى مسؤولو العدالة الجنائية إلى تشجيع الجاني على تحمل المسؤولية تجاه الضحية والمجتمعات المحلية المتضررة، وأن يدعموا إعادة اندماج الضحية والجاني في المجتمع.
وهي مزيج من العدالة التأهيلية والعدالة التوزيعية والتي تعني الاولى أولوية تأهيل “الجاني” ودمجه مجدداً في مجتمعه الثانية تعني توزيع المسؤولية عن الجريمة بين الجاني والضحية والمجتمع.
تقتضي العدالة التصالحية وجود ميّسر للمفاوضات بين الجاني والضحية
ثانياً: العدالة الانتقالية:
يرتبط السلام الدائم في سورية ارتباطاً وثيقاً بالعدالة والتنمية واحترام حقوق الإنسان. فقد أظهرت عمليات العدالة الانتقالية في الدول الأخرى التي شهدت نزاعات مسلّحة أن العدالة الانتقالية تساهم في معالجة المظالم والانقسامات المجتمعية فيما إذا كانت عمليات العدالة الانتقالية هذه محددة السياق، ووطنية، وأن تركز على احتياجات الضحايا.
وأهم احتياجات الضحايا الاعتراف بأنّهم أصحاب حقوق، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون وبالتالي، تسعى العدالة الانتقالية إلى المساهمة في المصالحة عبر المحاسبة والإنصاف وجبر الضرر ومنع الانتهاكات الجديدة.
ويقع على عاتق الدولة التزام بتوفير سبل انتصاف فعالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وتلبية حقوقهم في الحقيقة والعدالة والجبر وفق نُهج شامل ومتكامل يُغطّي جميع أبعاد العدالة الانتقالية وبطريقة متكاملة بدءاً من عمليات تقصي الحقائق وإطلاق مبادرات الملاحقات القضائية وتنويع التعويضات واتخاذ التدابير اللازمة لمنع تكرار الانتهاكات من جديد، بما في ذلك الإصلاح الدستوري والقانوني والمؤسسي، وتقوية المجتمع المدني، والجهود الرامية إلى تخليد الذكرى، والمبادرات الثقافية، وصون المحفوظات، وإصلاح تعليم التاريخ.
وترتكز العدالة الانتقالية على الأسس التالية:
– محاسبة مجرمي الحرب والمجرمين ضد الانسانيّة جميعاً بدون استثناء وعدم تمكين أيّ منهم من الإفلات من العقاب أو يشكّل تهديداً للسلم والأمن الأهليين.
– إنصاف الضحايا جميع الضحايا دون تمييز أو اقصاء بالتشاور مع الضحايا والمجتمعات المتضررة عند تصميم آليات العدالة الانتقالية وتنفيذها، ما يساهم في تقبلّهم نتائج العملية والتحوّل الى بناء السلام والمصالحة.
– جبر الأضرار والتعويض العادل عنها.
– تخليد ذكرى الشهداء.
ثالثاً: أخطار حصر العدالة في سورية بالعدالة التصالحيّة:
– الإقرار بأن النزاع في سورية هو حرب أهليّة وليس ثورة شعبيّة وبالتالي يتساوى الضحايا مع الجناة المجرمين في المسؤولية عن الجرائم المرتكبة في سورية.
– إن فلول النظام البائد ستعتبر تبني العدالة التصالحية والتعويضية إنجازاً عظيماً يجب التمسك به لأن هذه المصطلحات تحوّل مسؤوليتهم من مسؤولية جنائية عن أفعال جرمية عمدية تقتضي العقوبة وجبر الضرر إلى مسؤولية تقصيرية لا عقاب جزائي فيها وجبر الضرر يكون بالتعويض فقط.
– المساواة في تحمّل المسؤولية عن آثار الحرب الأهليّة، وعن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة والتي تؤدي حتماً إلى الشراكة أو المحاصصة أو تقاسم السلطة مع فلول النظام.
– العدالة التصالحيّة بوابة للانتقام والثأر لأنها لا ترضي أولياء الدم وبالتالي ضرب السلم الأهلي الذي لا يمكن تحقيقه الا عبر بوابة العدالة الجنائية ومحاسبة المجرمين وعدم تمكينهم من الإفلات من العقاب.
– إن عبء الإثبات في المسؤولية التقصيرية يقع على عاتق المتضرر وهذا يقودنا الى أمرين فيما إذا تم تمرير “العدالة التصالحية”:
الأول: إذا اثبتنا مسؤولية النظام البائد وشبيحته عما ارتكبوه من جرائم.
والثاني: إذا اعترف النظام وشبيحته بمسؤوليتهم عن الأضرار.
سيكون دفعهم لنفي المسؤولية الجنائية عنهم تذرعهم بأنهم كانوا يطبقون الدستور والقانون وأن الأضرار كانت نتيجة إهمال وتقصير وعدم اتخاذ وسائل الحيطة والحذر فهم حينها مطالبون بالتعويض والدولة في هذه الحالة ملزمة بهذه التعويضات كونها من آثار الحرب وفق ما يسمى “قانون التعويضات” والأشخاص ملزمون بالتعويض عن الأفعال الشخصية وفي الحالتين انقلبت أحكام العدالة الانتقالية إلى عدالة “جبر الضرر” والتي تقودنا إلى أن تقدير الأضرار يدخل فيه نسبة مسؤولية المتسبب بالضرر ومسؤولية المتضرر.
– تكرس مبدأ المساومة والتفاوض بدﻻً من مبدأ المحاسبة والقصاص سيكرّس آثار جرائم النظام البائد عبر بوابة العدالة التعويضية والتي تقوم على التعويض عن اأضرار التي لحقت بالعقارات والمنقوﻻت وعن عمليات اغتصاب العقارات واﻻستيلاء عليها بدون وجه حق، وللعلم أن القانون السوري والدساتير السورية ﻻ تعترف بأي أثر قانوني على التصرفات الباطلة ويقتضي هذا المبدأ إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل اﻻعتداء فالتعدي على الحيازة يقتضي رد الحيازة والتعويض عن الأضرار ورد الثمار إن وجدت، وغصب العقارات جرم جزائي يقتضي طرد الغاصب وحبسه ورد العقار المغصوب مع التعويض عن الأضرار، اﻻستيلاء غير القانوني ﻻ أثر له على حقوق أصحاب العقارات ويقتضي رفع يد الجهة المستولية عن العقارات المستولى عليها مع التعويض عن الأضرار ورد العين إلى أصحابها، وكذلك ﻻ يجوز استملاك الأراضي والعقارات خارج القانون وأن أي استملاك خارج القانون يقتضي رد الأراضي والعقارات المستملكة والتعويض عن الأضرار.
– إن إقرار العدالة التعويضية للمتضررين وحصر الخيارات أمام المتضررين بالتعويض إذا لم يكن بالإمكان رد العين وعدم الرد هو تكريس لجرائم غصب عقارات السوريين من قبل عصابات الأسد والشركات العقارية الروسية والإيرانية وشركات شركاء بشار الأسد التي استولت على عقارات السوريين بموجب القانون رقم 10 لعام 2018 والقوانين العقارية الأخرى وعمليات سلب العقارات بالعقود المزورة والأحكام القضائية الباطلة. في زمن الحرب ﻻ يوجد أي خيار لرد المظالم سوى إعادة الحال إلى ما كان عليه أي بمعنى آخر عدم اﻻعتراف بأي أثر قانوني لأي تصرف يؤثر على الأوضاع القانونية للسوريين وحياتهم وأملاكهم وأموالهم.
لذلك نأمل من جميع السوريين مطالبة الدولة السورية الجديدة بتطبيق العدالة الانتقاليّة كونها بوابة السلم الأهلي وإعادة الإعمار وتحقيق التنمية المستدامة والازدهار وكفايتنا مؤونة الاقتتال والدخول في أعمال انتقاميّة ثأرية لا تبقي ولا تذر.