بسام العيسمي
لاسبيل لنا لإعادة بناء فضائنا الوطني الذي أوهنه نظام القتل والجريمة الساقط , وعلى مدار أكثر من نصف قرن , مُحدثاً فيه الكثير من التصدعات والإنهدامات في البنية المجتمعية السورية , إلّا بقدرتنا على إعادة تعريف ذواتنا كأفراد سوريين متساوين في الحقوق والكرامة والمكانة وتكافئ الفرص , قبل أي انتماء آخر .
تعزيز الهوية الوطنية السورية ببعدها الوطني الديمقراطي , تخلق أرضية مشتركة وفضاءً وطنياً جامعاً لبناء أنظمة عادلة ومستقرة . وتؤسس القواعد والمرتكزات المتينة والحاملة للدولة الوطنية السورية .
علينا الإنطلاق من السورية المشتركة كهوية جامعة لتكون البوصلة والأساس والمساحة التي نقف عليها جميعاّ كسوريين لصياغة وإنتاج مشروع سوري وطني الطابع والتكوين , ديمقراطي الأهداف , إنساني الدلالة . يقطع مع الاستبداد بكل أشكاله السياسية والقومية والدينية والطائفية . وتجلياته في الفكر والثقافة والممارسة والسلوك . ويحدد ملامح سورية الجديدة القادمة , دولة وطنية ديمقراطية تداولية . تقف على مسافة واحدة من كل مواطنيها . دولة المواطنة المتساوية التي تتسع لكل أشكال التعددية والفسيفساء السوري . والقادرة على تنظيم العيش المشترك بالتوافق مع هذا التنوع والاختلاف . بإطار المساواة القانونية في الحقوق والواجبات بين جميع أفراد المجتمع . بغض النظر عن أي انتماء ديني أو طائفي او أثني أو أي تمايز آخر .
وأي مسار قد يذهب إليه البعض لفرض منطق المغالبة على المشاركة في بناء الدولة ؟ هو استمرار للنزيف السوري ومزيد من التشظي والضياع .
في ظل غياب الدولة الوطنية السورية التي لم تتشكّل ؟ لأن طغمة الأسد المجرمة والساقطة ومنذ أكثر من خمسين عاماً استولت على سورية بمنطق الغزوة والغنيمة . وأطلقت رصاصاتها الغادرة والآثمة على جنين الدولة الوطنية (الذي كان قد بدأ بالتشكّل في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي) لصالح المزرعة قبل أن يدخل مخاضات الولادة .
وغياب الدولة لصالح السلطة يعني غياب وضعف الهوية الوطنية الجامعة المؤسسة للدولة الوطنية .
مما سمح ذلك ببروز الهويات الفرعية ما فوق وما تحت وطنية في الفضاء الوطني السوري. والتي تتنافس كلّ منها على جر سورية الى خانتها وإعادة انتاجها وتفصيلها على مقاس أيديولوجيتها .
الإنطلاق من خاصية الإنتماء الديني أو الطائفي أو الأثني لتكييف الهوية السورية وفقاً لمقتضياته ؟ كانت ولا زالت مشكلتنا . والسبب الرئيس في هذا التشظي السياسي والجغرافي الذي لا زال قائماً حتى الآن .
فهناك من ينظر إلى سوريته من خلال عروبته أو كرديته , أو من خلال إسلاميته أو طائفته وهكذا ؟ وهذا بدوره يقود لتطويع الوطنية السورية أيديولوجياً وتأسيسها على هذه التعريفات المختلفة لتكون ملحقة بمشاريع مافوق وطنية عابرة للحدود .
فما زال مفهوم الهوية الوطنية السورية مفهوماً إشكالياً لدى قسم كبير من السوريين . لعدم وجود تعريف محدد لها يتوافق عليه الجميع .
فإذا أردنا بناء الدولة الوطنية السورية وخلق فضاءً وطنياً عمومياً لكل السوريين علينا أن نعكس منظور الرؤية . بمعنى أن ننظر من سوريتنا إلى عروبتنا وليس العكس ؟ ومن سوريتنا إلى كرديتنا , ومن سوريتنا إلى اسلاميتنا الى مسيحيتنا . من سوريتنا إلى طائفتنا وهكذا . سورية أولاً وثانياً وثالثاً في تراتبية الأولويات في الدولة الوطنية .
ومن هنا أرى أهمية إعادة النظر
بتعريف الهوية الوطنية السورية لتتسع للجميع . وبما لا يتناقض مع كل هذه الهويات الفرعية التي تكون جميعها مصدر غنى لها . لتصبح الوطنية السورية فضاءً وطنياً عموميا لجميع السوريين كأفراد شركاء متساوين في الحقوق والكرامة بعيداً عن كل الإستقطابات الدينية والطائفية والأثنية والمذهبية . أفراد وشركاء في وطن سنبنيه معاً وسيكون لنا جميعاً . فرابطة المواطنة في الدولة الوطنية تقوم بين الفرد والدولة بكونه مواطناً سورياً. وليس بين الدولة والجماعات . وعكس ذلك نكون قد بنينا سلطة جديدة ؟أي استبدلنا سلطة بسلطة . ولم نبني دولة الكل السوري.
البناء على المشترك هي الخطوة الأولى وليست النهائية في مسار بناء الدولة .
نحن الآن في مرحلة التأسيس والبحث عن أفضل الحوامل والمرتكزات والمفاهيم التي نعبُر عليها ومن خلالها من المزرعة إلى الدولة .
وهذا يتطلب إضافة لإعادة تعريف الهوية الوطنية اعتماد تعريفات واضحة لمجموعة من المصطلحات السياسية في فضاء الوطنية السورية . عبر حوار سوري سوري جاد بين كافة القوى الوطنية السورية وشرائح المجتمع السياسية والفكرية والإجتماعية والإقتصادية والأكاديميين واصحاب الإختصاص.
وعلى سبيل المثال لا الحصر علينا عادة النظر ومقاربة الكثير من المفاهيم التي تؤسس لهذا الإنتقال الى الدولة .
مثل مفهوم الهوية الوطنية , مفهوم الشعب , المجتمع المدني , الأقلية والأكثرية , الديمقراطية , المواطنة , العلمانية اللامركزية , مفهوم الدولة والسلطة , الدولة الحيادية , الدولة المدنية.. الخ . وغيرها من المصطلحات والمفاهيم التي لاتزال إشكالية في الوعي السياسي السوري . بمعنى كل طرف يفسّرها بشكل مختلف عن الآخر ؟ وبالتالي تختلف مدلولاتها وتطبيقاتها على الواقع حسب اختلاف التعريفات والتفاسير . وهذا بدوره سيخلق تصورات مختلفة وغير منسجمة لطبيعة النظام السياسي لسورية الجديدة في بداية استقلالها الثاني .
وهنا لا أطرح تعريفات لهذه المفاهيم والمصطلحات . رغم وجود تعاريف لها متقاربة وواضحة في الفكر السياسي والقانوني كمعايير للدولة الوطنية الحديثة ؟ بل أطلب من الجميع مقاربة هذه المصطلحات الحاملة لمشروع الدولة للوصول الى تعريفات توافقية تُجمع عليها الأكثرية السورية لضبط مدلولاتها السياسية والقانونية في إطار الممارسة والإسقاط على الواقع في هذه المرحلة التأسيسية للدولة السورية .
وهذا سيسهم بالتأكيد في توحيد الإرادات , ومقاربة الأهداف والغايات , وتخفيف الإحتقانات الطائفية والقومية . وتبريد الصراعات الهوياتية وانخفاضه مقابل صعود الهوية الوطنية الجامعة . مما يخلق الأرضية الوطنية والسياسية والثقافية لإعادة بناء الفضاء الوطني السوري وعمارة المجتمع بشكل سليم ومعافى.
عصابة طغمة الأسد للجريمة والفساد حوّلت سورية التاريخ والحضارة لمزرعة مملوكة ومنهوبة بكل خيراتها ومواردها وثرواتها وحجرها وبشرها تنتقل بالوراثة من الأب الى الولد . غيبت العدالة وحكم القانون وعسفت بالحقوق وصادرت الحريات واعتدت على الكرامات وتعاملت مع السوريين كعبيد أذلاء في مزرعتها وليس كمواطنين كرماء . وعقّمت الشارع السوري من السياسة بكونها الأداة السلمية للصراع على السلطة . لأنها أرادت تأبيد نفسها . وحولت سورية لمملكة الرعب والخوف والصمت والجريمة . حولتها الى سجن كبيير للسورين مُحكم الإغلاق .
دفع السوريين جميعهم وبمستويات مختلفة أثمان باهظة من الدماء والآلام والشهداء والقهر والجوع والفقر والتهجير عبر الأربعة عشر عام الماضية . والذي تُوّج بالعمل البطولي والرائع لإدارة العمليات بقيادة السيد أحمد الشرع .
بسقوط هذه الطغمة القاتلة . والذي اتى في سياق ترتيبات وتوافقات إقليمية ودولية لرسم خريطة جوسياسية جديدة لمنطقة الشرق الأوسط خالية من الفواعل مادون الدولة والمليشيات العسكرية والطائفية التي يديرها النظام الإيراني لنشر الفوضى والجريمة فيها . بهدف عودة الإستقرار إليها . ولعدم قدرة النظام السابق الإنفكاك عن إيران ؟ وتحوّله لأداة قذرة بيدها مسلوب القرار والسيادة ,؟ تم رفع اليد عنه والتي كانت تحميه من السقوط .
والحق يُقال كان أداء هيئة العمليات من يوم انطلاق معركة ردع العدوان حتى دخول دمشق وسقوط النظام . سلوكاً منضبطاً وحضارياً ليس فيه انتقامات ممنهجة . بل فيه حرصاً على حياة السوريين ومراعاة لقوانين الحرب والحفاظ على حياة المدنيين . رغم وجود بعض الخروقات والسلوكيات الإنتقامية وغير المنضبطة . وهي حالة طبيعية تحدث لما أورثه وأوقعه النظام السابق من كوارث وجرائم على السوريين . ناهيك عن حالة الفوضى التي ترافق مثل تلك الأعمال. لكنها بقيت فردية وغير ممنهجة . وهذا أمر جيد يعطينا الكثير من الأمل بالمستقبل .
أمّا الآن وبعد أن كُسر هذا الطوق المُحكم الذي كان يلتف حول أعناقنا وخرجنا للنور
علينا جميعاً كسوريين العودة وبفاعلية للشارع السياسي الذي حٌرمنا منه لعقود طويلة من الزمن .
علينا العودة لممارسة السياسة , وأن نحوّل سورية كلها لورشة حوار دائمة علينا الإسراع بإقامة الندوات واللقاءات والمنتديات في كل قرية ومدينة على امتداد الجغرافية السورية . لنوصّف أزماتنا وأمراضنا , وسُبل الخروج منها . وكيف نفكك أزماتنا ونتجاوزها , ونتعالج من أمراضنا المُزمنة وتٌركة الإستبداد الثقيلة . علينا مقاربة الرؤى والتصوّرات حول المؤتمر الوطني المزمع عقده من حيث أليات انعقاده ومهامه والطريقة التي تتم فيها اختيار أعضائه ونسب التمثيل وكل هذه هذه المسائل . وتقديم المشاريع السياسية والوطنية للمرحلة الإنتقالية وآلياتها وتراتبية الأوليات فيها بين المهم والأهم . وطبيعة وشكل الدولة ونظام الحكم فيها التي سنعبر إليها بالتنسيق والحوار بين الفعاليات السياسية والإجتماعية والإقتصادية وكافة شرائح المجتمع في كل المدن السورية , بما فيه السوريين في بلاد المهجر والإغتراب . لنكون شركاءحقيقين في صياغة ورسم مستقبل بلدنا وهذا حق لنا وليس منة وفضل من أحد. علينا التمسّك به وعدم التنازل عنه تحت أي ظرف كان . لنصل إلى توافقات وطنية وسياسية في كل المسائل والقضايا الملحة في المرحلة الإنتقالية ومستقبل سورية . ومن خلال هذه الحوارات التي يجب أن تستمر حتى انعقاد المؤتمر الوطني يستطيع السوريون من اختيار ممثليهم لهذا المؤتمر . لا ان يُترك اختيار الممثلين للجان التحضيرية التي قد تُشكّل لهذا الخصوص . بل بالتنسيق معها لفرض الإرادة الوطنية السورية على مخرجاته بكل المواضيع والبنود التي ستكون بموضع البحث . نريد مؤتمراً وطنياً حقيقياً يمثّل إردة السورين لا مؤتمر شكلي يتم اختيار أعضاءه بالمحسوبيات والولاءات والمعارف لإعطاء شرعية شكلية للسلطة تكون في حقيقتها غير صادرة عن الإرادة الشعبية والوطنية السورية .
وأتصور حتى نكون واقعيين بأن إدارة حواراتنا ومقارباتنا لكثير من المسائل الخلافية والمفاهيم , والوصول لتوافقات سياسية ووطنية حول استحقاقات المرحلة القادمة ليست بالمسألة السهلة كما يتصور البعض . بل هي مسألة شائكة وصعبة.
لأن ومع الأسف مجتمعنا وطيلة العقود الستة الماضية مغيّب عن السياسة وممارستها . وممنوع عليه التعاطي بالشأن العام أو إدارة الحوارات وتأسيس التجمعات والمنابر الثقافية , وممارسة الأنشطة السياسية خارج إرادة السلطة الحاكمة وتوجهاتها . لم نتعوّد أن نسمع بعضنا . فلا زلنا نحمل وبنسب مختلفة فكر ايديولوجي واستبدادي لايقبل الأخر . وكلُ منا يعتقد بأنه يملك الحقيقة كاملة ؟ ومن يعارضه في الرؤى والقناعات إزاء هذه المسألة أو تلك هو خارج عن جادة الصواب . إضافة بأننا لانمتلك ثقافة ومرونة إدارة العمل الجماعي ضمن الفريق . ننجح على المستوى الفردي ونفشل كجماعات , أو بالعمل الجماعي . هذه المهارات لاتُكتسب ولا تتطور إلّا من خلال الممارسة الفعليه على الأرض في المجتمعات الحية التي يُتاح للأفراد فيها التجمعات وتشكيل الجمعيات والقيام بالأنشطة المختلفة الجماعية بإرادة الأفراد الحرة , لا من إرادة السلطة . كما أن تغيير القناعات وتطورها وإغناء الفكر لايتم في ظل الجذر والمنع والتغييب ؟ بل في حالة الإنفتاح وحرية الرأي والتعبير والإشتباك السلمي للأفكار والقناعات والرؤى والتصورات في ظل نظام حكم يحترم التعددية وحرية الرأي وحق الإختلاف . هذه معركة حقيقية للسوريين لانتزاع حقوقنا لابد من خوضها قد نخطئ نصحح نتعثر ننهض من جديد ونتعلم من أخطائنا ونستمر إلى الأمام . علينا وفي هذه المرحلة الدقيقة والمصيرية من تاريخ سورية والسوريين أن نمتلك العزم والإرادة ونكون بقدر المسؤلية الوطنية والأخلاقية الملقاة على عاتقنا لإنجز توافقنا الوطني والوصول لمشتركات تؤسس لعبورنا المرحلة الإنتقالية إلى الدولة الوطنية الديمقراطية التداولية التي نحلم بها جميعا بكونها استحقاقاً وطنياً ومصيرياً يتعلق بوطننا وبالوفاء لدماء وقهر ومعاناة وتضحيات السوريين جميعاً , لأنها تتعلق بمستقبلنا ومستقبل أبائنا .