عبد السلام بنعبد العالي
طرح سقوط نظام الأسد في سوريا، مسألة مستقبل البلاد على ضوء ما شهدته خلال السنوات الأخيرة من عنف بلغ حدوده القصوى، وإلى جانب ذلك طرحت مسألة كيفية المصالحة والتعامل مع الذاكرة الجماعية المثقلة بالآلام.
يذهب تزيفيتان تودوروف إلى أن “الذاكرة في حد ذاتها، ودون أي قيد آخر، ليست جيّدة ولا سيئة. الفوائد التي نأمل في الحصول عليها منها يمكن أن تُحيد، بل وحتى تُحرّف. كيف ذلك؟ أولا، من خلال الشكل الذي تتخذه ذكرياتنا، وهي تتأرجح باستمرار بين عقبتين متكاملتين: التقديس، أو العزل الجذري للذكرى، والتبسيط، أو الاستيعاب المفرط للحاضر في الماضي. تقديس حدث ماض لا يختلط مع تأكيد تفرده”. يفترض الناقد البلغاري أن وظيفة الذاكرة لا تتغير، ما يلحقه التغير هو ذكرياتنا التي تتأرجح بين تقديس الحدث الماضي، وبين تبسيطه واختزاله. فماذا لو كانت الذاكرة نفسها تتأرجح هي كذلك بين الفعالية والانفعال، بين الحرص الشديد على استحضار الذكرى، وبين إغفالها وتناسيها.
طرحت مسألة وظيفة الذاكرة في الفترات التي عرفت ما سمي قضية “الصفح والمصالحة” التي اقترحتها بعض البلدان بهدف تصفية الحساب مع ما يكون قد شاب ماضيها من أشكال الظلم، و”طيّ الصفحة” مع ما عرفته من حقب سوداء في تاريخها. ما زلنا نذكر قولة مانديلا المأثورة: “نعم للصفح، لا للنسيان”. ما تؤكده عبارة الزعيم الأفريقي هو أن الذاكرة ينبغي أن تظل تعمل، حتى وإن كانت هناك مصالحة، و”تفاهم” على ما سبق أن حدث، عليها دائما أن “تفعل” وتستذكر “الشر ومعه الجاني”.
جدل فلسفي
نعلم أن المسألة طرحت جدلا فلسفيا كبيرا. يرى جاك دريدا أنّ علينا أن نميز “الصفح” عن “المصالحة”، ففي المصالحة “يَفهم” الضحية من أساء معاملته ويتفهمه، ويحاوره و”يتفاهم معه”، من أجل رأب الصدع، من أجل “تجاوز” الشرّ، وربما من أجل تناسيه. إلا أننا إن أرجعنا الصفح إلى وظيفته النفعية، فإنه يغدو وظيفيا، ويفقد خاصيته المميزة، ومتى ارتبط الصفح بغاية لم يعد صفحا: “كلما كان الصفح في خدمة غاية محددة، وكلما نزع إلى إعادة الأمور إلى طبيعتها، فإنه لا يكون خالصا”، لا يكون صفحا. ذلك أن الصفح يستدعي الذهاب إلى أقصى الحدود، وربما إلى الحدّ الذي قد يغدو معه حاجز نفسه، وينجرّ إلى نوع من المفارقة. فأنا، إذا كنت لن أصفح إلا على ما يقبل الصفح، أي الإساءات الطفيفة والصغائر، فإنني لن أفعل شيئا يستحق اسم الصفح. فما هو قابل للصفح مصفوح عنه مقدما. ومفارقة الصفح هي أنه لا ينصبّ إلا على ما لا يقبل الصفح، إلا على الكبائر. كأن الصّفح الوحيد الذي يكون ممكنا هو الصفح المستحيل.
غير أن هذه الاستحالة لا تعني اليأس، وإنما تجعل الصفح عملا دؤوبا لا يستقيم إلا بذاكرة حيّة فعالة تستحضر الشر كما وقع بالفعل، من غير تلطيف ولا تخفيف. إن تكاثر مشاهد التوبة والصفح المطلوب اليوم يدلان على حاجة مستعجلة لهذه الذاكرة، وعلى الرغبة في التوجه الصريح نحو الماضي.
تحديد الذاكرة
لا يتعلق الأمر بتقديس الذكرى أو اختزالها، وإنما بتحديد عمل الذاكرة نفسها، فهل تكمن وظيفتها في أن “تتغاضى” عن بعض الذكريات، أم في إحيائها واستحضارها الدائم. حينئذ سيغدو الصفح فعالية متواصلة تعمل ضد المؤسسة التي تنزع بطبيعتها إلى “تدبير النسيان”، وأحيانا تحت غطاء الاحتفال بالبدايات والتسامي بها و”تخليدها” المتواتر الذي يجعل الواقعة مجرد “يوم ذكرى”. لكن، لا ينبغي أن ننسى أن ذلك لا يتم إلا بانتزاع تلك “الذكرى” من التاريخ الفعلي وتكريس نسيانها بـ”الارتقاء” بها نحو زمن الأسطورة الذي يحيا الوهم الأبدي للاستعادات المتكررة، أو بتخفيف وقعها اللغوي، اعتبارا بأن اللغة “خزان للذكريات”. وفي هذا السياق يذكر تودوروف طرقا انتهجت لإخفاء الحقيقة والقضاء على أي أثر لها في الذاكرة. تتجلى هذه الطرق أساسا في استخدام الكنايات والاستعارات. وهو يشير إلى أكبر مثال على ذلك لدى النازيين، حيث سادت أشكال “تخفيف الوقع” بشكل خاص في ما يتعلق بـ”السر المركزي للإبادة”. وفي هذا السياق اشتهرت عبارات مثل “الحل النهائي”، و”المعالجة الخاصة”. وقد وصل الأمر بالجانب الشيوعي، إلى تغيير وظيفة اللغة بأكملها، وأدى إلى ما صار يُسمى “لغة الخشب”: وهي خطاب يتألف من عبارات جامدة “متخشبة” لم تعد لها أي علاقة بالواقع.
لا يمكن للذاكرة أن “تطهر” الماضي من كل ما علق به بأن تتناساه دفعة واحدة، وهي مجبرة على يقظة دائمة. وربما لأجل ذلك قد يسهل علينا أن نفهم لماذا اكتسبت الذاكرة هذا القدر من الهيبة في أعين جميع أعداء الأنظمة الشمولية، ولماذا اعتُبر أي فعل من أفعال التذكر، مهما كان بسيطا، شكلا من أشكال المقاومة ضد الشمولية. وفي هذا الصدد نعلم أنه في الدول الديمقراطية، تُعدّ القدرة على الوصول إلى الماضي دون الخضوع لرقابة مركزية، إحدى الحريات التي لا يمكن التنازل عنها، إلى جانب حرية التفكير والتعبير. إنها مفيدة بشكل خاص في ما يتعلق بالصفحات السوداء من ماضي هذه الدول نفسها.
البحث في الماضي
يورد تودوروف كثيرا من الأمثلة التاريخية على ذلك: “فالتاريخ الاستعماري لفرنسا، على سبيل المثل، ربما لم يُكتَب بعد بشكل مُرضٍ، ولكن لا توجد أي عوائق مبدئية تحول دون القيام بذلك. وبينما كان السعي في مرحلة ما بعد الحرب مباشرة لتخفيف وتجميل دور حكومة فيشي خلال الحرب العالمية الثانية، يمكن اليوم تذكره وتحليله دون مواجهة مقاومة سياسية كبيرة. وبشكل أكبر، تتاح الحرية للأبحاث حول ماضي الأنظمة الشمولية. جرائم النازيين هي من بين الوقائع الأكثر توثيقا في تاريخ القرن العشرين. أما الجرائم التي ارتُكبت تحت الأنظمة الشيوعية، فتبقى أقل حضورا في الذاكرة الجماعية، ومع ذلك لم يعد في الإمكان القول إنها مُهمَلة، كما كان الحال بعد الحرب العالمية الثانية. فقد أصبح “الكتاب الأسود للشيوعية” من أكثر الكتب ذيوعا”.
وعلى رغم ذلك، فإن تطور أدوات الاتصال التي تدفع إلى استهلاك متزايد ومحموم للمعلومات، أصبح يجر المرء نحو “الشغف” بما يستجد من معلومات، وإلى الانقطاع عن تقاليده شيئا فشيئا، والحرمان من الفضول الروحي ومن الألفة مع الأعمال العظيمة في الماضي، فأصبح محكوما عليه بتفاهة اللحظة وجريمة النسيان. لذا، يمكننا أن نؤكد أن الدول الديمقراطية نفسها، أصبحت هي كذلك تقود شعوبها إلى الهدف نفسه الذي تسعى إليه الأنظمة الشمولية، أي إلى تجميد الذاكرة، ودفعها نحو “الإخلاد إلى النسيان”.