لم تشهد دمشق، في تاريخها كله، حشداً جماهيرياً كالذي شهدته يوم الجمعة الذي أطلق عليه السوريون “جمعة النصر”، بعد أن أسقطوا نظام الأسد نهائياً، وفرّ رئيسه بشار وانهارت قدراته العسكرية والأمنية، امتلأت شوارعها وساحاتها بالمحتلفين وهم يرفعون علم الاستقلال الأخضر مرددين هتافات النصر والابتهاج. لكن هل أنجزت المهمة؟
لم تنجز المهمة بعد. فالثورة السورية كواحدة من أعظم ثورات الأرض وأطولها زمناً وأكبرها كلفة، لم تندلع بهدف القضاء على نظام قائم وحسب، بل لإقامة نظام جديد مؤسس على العدل والحداثة والتنمية والقيم المتحضرة.
ولكن قبل ذلك، علينا أن نسأل: ما الذي حدث يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر؟ كيف انتصرت الثورة؟ وكيف انتقلت السلطة؟
لا يستطيع أحدٌ القول إن الجهد الدولي وقرارات مجلس الأمن هي من أسقطت الأسد. فهو بقي يرفض تطبيق القرار 2254، واستمر يحارب قوى الثورة حتى آخر لحظة، حرباً عدوانية لا دفاعية. ما استوجب شن عملية حملت عنوان “ردع العدوان”، ترتّب عليه هزيمة عسكرية لحقت بنظام الأسد.
مادام الأمر لم يكن كذلك، إذاً ما حصل في دمشق يوم 8 من كانون الأول، كان انتصاراً عسكرياً، بمفاهيم أخرى لا يصح عليه الوصف إلا أنه “انقلاب” ناجح بنسبة 100 بالمئة. والانقلاب ليس خلاصة تفاوض واتفاق، وبالتالي فإن نظام الأسد لا يستحق أن يكون شريكاً في تطبيق القرار 2254. فما الحاجة إذاً لتطبيق مثل هذا القرار الآن؟
يسهل قول ذلك، لكن المضي فيه عملياً، سوف يعني فقداناً لخارطة طريق دولية تم الاتفاق عليها، من شأنه أن تضمن تشاركاً حقيقياً في تشكيل هيئة الحكم الانتقالية القادمة.
لكن كثيرين يرون أن القرار المذكور قد فقد معناه، بزوال الطرف المعني الثاني فيه، وهو نظام الأسد، فما ضرورة التمسك به؟
غير أن الانقلاب العسكري لديه سرديته وأصوله الدستورية في دولة قائمة ذات سيادة، وأول تلك التقاليد إصدار إعلان دستوري يعلّق العمل بالدستور الحالي، ويخلع الرئيس الذي كان يشغل المنصب، وحل البرلمان وتكليف حكومة جديدة بتسيير الأمور في مرحلة انتقالية، وتلك البنود أقل الأسس المطلوبة لحيازة الشرعية للحكم الجديد.
بنظرة خاطفة، يمكن القول إن الحالتين المذكورتين أعلاه لم تقعا، فالحكم لم ينتقل بالتفاوض ولا بإعلان دستوري، فما الذي يمكن فهمه من الوضع الحالي إذاً؟
الإدارة الجديدة في سورية، لا تريد أن تحكم البلاد بصيغة “حاكمية المتغلّب”، وهي مدعوة إلى الاقتناع بأن السوريين حين رفعوا علم الاستقلال الأخضر ذي النجمات الثلاث، فهم يرمزون من خلاله إلى الدستور الذي أقرّه وهو دستور الخمسينيات، أي أن هذا العلم هو علم جمهورية متحققة لها هياكلها وسيادته وبرلمانها، فما الداعي إذاً لتكرارهم عبارة “شكل الدولة” سيتقرر لاحقاً؟
الجواب على السؤال الجوهري السابق يقودنا إلى المنظومة الفكرية التي تحملها “هيئة تحرير الشام”، والمفاهيم التي تؤمن بها، وتلك التي لا تراها ضرورية بحكم كونها باتت تمسك اليوم بالسلطة. تلك المنظومة التي عبّر قائدها أحمد الشرع في العديد من المفاصل عن قابليته للتحول والتطور، لا بدوافع برغماتية وحسب، بل لكونها تنطلق من رغبة في تجديد الخطاب الديني وعصرنته.
جاء بيان مجموعة الاتصال العربية المسمى “بيان العقبة” ليؤكد على ضرورة التمسك بالقرر 2254 وليعكس مواقف الدول العربية التي تراقب ما يجري في سورية بحذر، ولكن بترحيب، فهي كما قلنا عنها لا تريد رؤية إمارة إسلامية في سورية بقدر ما لا تريد ولا تتخيل جمهورية ديمقراطية فيها.
هبط المبعوث الدولي غير بيدرسون في دمشق والتقى الشرع، وخرج بيان عن القيادة السياسية في دمشق ليكشف أكثر عن الموقف من القرار الدولي، وجاء فيه أن الشرع بحث مع المبعوث الأممي ضرورة إعادة النظر بقرار مجلس الأمن 2254 وضرورة التركيز على وحدة سورية وإعادة الإعمار، وأهمية التعامل بحذر في مراحل الانتقال، إلى جانب إعادة تأهيل المؤسسات لبناء نظام قوي وفعال، مؤكداً أهمية توفير البيئة الآمنة لعودة اللاجئين.
وفي الوقت الذي يتساءل فيه كثيرون عن جدوى استمرار مؤسسات المعارضة السورية المعروفة، الائتلاف وهيئة التفاوض والحكومة المؤقتة، يأتي اجتماع الشرع وبيدرسون وما صدر عن الشرع من أنه ينظر بعين الاعتبار للقرار الأممي مع ضرورة تعديله، يبرز دور تلك المؤسسات التي هي قوام تطبيق خارطة الطريق التي يعبّر عنها القرار، ومن خلالها يمكن تأسيس الشراكة السياسية وفقاً لما يصف به القرار سورية كدولة منجزة، جمهورية حديثة، لا دولة يعاد تشكيلها من الصفر.
المهمة لم تنجز كاملة بعد، وسورية لم تتحرر كاملة بعد، فهناك دير الزور والحسكة والرقة، التي يهيمن عليها تنظيم PKK الإرهابي، والتي يجب أن تعود إلى الجمهورية السورية مثل غيرها من المحافظات التي تحررت. وهو أمر لا يقبل المساومة والبازار، لا باسم البرغماتية ولا باسم غيرها.
صحيح أن التسريبات تقول إن هناك اتجاهاً لتمديد الفترة المؤقتة لعمل حكومة البشير من ثلاثة أشهر إلى ستة، وأن هناك من يقول إن الإطار الزمني يجب أن لا يكون ملزماً، إلا أن الوقت الآن هو وقت السياسة، وهو زمن اختبار الإعلانات التطمينية التي صدرت حتى الآن من الأطراف كافة، والسوريون بأمس الحاجة إلى المزيد من الانخراط في حوار سوف يفضي إلى تقرير مصيرهم ومستقبلهم يحمي ثورتهم من الفشل بعد أن انتصرت، ويحميهم من تدابير قد تكون تُحاك لهم الآن في هذه العاصمة أو تلك.